1. لا يستطيع أحد أن ينكر أهمية الوحدة، ودورها في النمو والتقدم والازدهار لدى الجميع، كما لا ينكر أحد خطورة التمزق والتناحر الداخلي والصراع فيما بين الأمم، ودوره في تكريس التخلف والانحطاط المُزري لدى الجميع.
2. وقد جرّبنا هذه الحقائق في تاريخنا الطويل أكثر من مرّة، وفي أكثر من مرحلة حاسمة، فبعد أن كنّا أمّة تعيش في صحراء الجزيرة على طرف العالم، عندما كانت الأحوال في الجاهلية مضطربة والأيدي مختلفة والكثرة متخلفة، إذ بنا نتحوّل بفضل الوحدة التي شادها الإسلام، إلى أكبر قوّة في المنطقة تحكم لعدّة قرون أكب مساحة في الأرض تمتدُّ من أقاصي الصين إلى أعماق إفريقيا، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
3. كانت هذه تجربتنا الأولى، أمّا الثانية فقد كانت على النقيض من ذلك. حيث سقطنا تحت أقدام المغول، وانهزمنا أسوأ وأخزى هزيمة لم يشهدلها التاريخ مثيلا، وذلك لأننا كنّا قد مهدنا لهم الطريق، وحّمنا مسبقا كافة القلاع والأسوار والحصون باقتتالنا الداخلي المريع وصراعنا الطويل في أواخر العصر العباسي حتى لم تبق قطرة دم واحدة في عروقنا، فاستسلمنا بسهولة لجيوش المغول المتوحشة التي أخذت تنهش في جسدنا المتحضر بضراوة لا تعرف الرحمة.
4. وكذلك في الأندلس حيث تقاتل الأمراء فيما بينهم ردحًا من الزمن، ولمّا خارت قواهم، ونزفت دماؤهم، وأنهكوا تماما انتهزت القوى المتربصة الموقف، واجتاحتهم بسهولة ويسر، وقضت عليهم، وأبادتهم عن بكرة أبيهم.
صيغة أخرى:
كان العرب في الجاهلية متلفين ومضطربين، وكانت الصراعات بين القبائل على أشدها، فقد كانت تقوم الحرب بينهم على أتفه الأسباب، وربما تستمر الحرب لأكثر من أربعين عاما ولا تنطفئ نارها إلا بعد أن تكون قد أتت على الأخضر واليابس ، فقد كانوا مضطربين والأيدي مختلفة وأكثرها متفرق.
وبعد دخول العرب في دين الله أفواجا، توحدوا وتراحموا فيما بينهم ، وعمتهم الألفة والود، فقد عمل الإسلام على تكريس روح الوحدة والألفة في قلوبهم (ونعرف الآثار السلبية للتمزق والصراع بين أفراد الأمة الواحدة ودوره في تكريس الجهل والتخلف)، فطفقوا جميعا مستمسكين بحبله، وفتحوا البلاد وقلوب العباد حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وانخرطوا فيما بينهم عربهم وعجمهم لا يفرقهم شيء، فأخوة الإسلام والدين أرفق بهم، واستمروا على ذلك في عصر صدر الإسلام والخلفاء الراشدين مرورا بالعصر الأموي الذي شابته بعض الشوائب لكن لم تقض على وحدته المتماسكة.
من ذاكرة المختبرة: لا يمكن أن ننكر أن التواصل والاتحاد بين الناس له دور في النمو والتقدم والتطور والازدهار، وأن للتفرق أثر في انتشار السلبية في المجتمع )
ثم بعد ذلك أصاب العالم العربي الإسلامي تمزق في وحدته السياسية، إذ حلت الكثرة محل الوحدة، وقامت على أنقاض الدولة الواحدة ممالك ودول عدة، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ولقد يكن للخليفة أي دور يقوم به سوى أن يجلس على كرسي الخلافة في بغداد، وانفرد كل أمير بإمارته، وتصارعوا فيما بينهم. وبلغت الصراعات ذروتها حتى اجتاحتنا الحملات الصليبية بلاد المسلمين، وأخذت بيت المقدس، ولعل أكبر ما أصاب الأمة الإسلامية هو اجتياح المغول لكل أراضي المسلمين في ظل غفلة الأمراء وصراعاتهم فيما بينهم حيث صراع المماليك فيما بينهم وتصارعهم مع بني أيوب والعباسيين وقتل كل منهم الآخر، فقد انشغلوا جميعا بصراعاتهم ونسوا العدو الداهم على باباهم المتربص بهم ليل نهار، فما لبثوا إلا والمغول قد أتت على أخضرنا ويابسنا، فقد احتلت أرضنا وقضت على خليفتنا، وظلت شراستها تنهش أجسادنا.
وعلى الجانب الآخر هناك بعيدا عن مشرقنا وصراعاته ، في بلاد الأندلس لم يتخلف الأمر كثيرا، بل كان أكثر سوءا، وأسوأ حالا فصراعاتهم فاقت كل حد، وتأمر كل منهم على الآخر كان على قدم وساق، حتى انتهز عدوهم الفرصة وانقض عليهم، فقتلهم شر قتلة، وما محاكم التفتيش عنا ببعيد، وسقطت الأندلس، في أيدي الإسبان بعد أن ظلت مشرقة بنور الإسلام أكثر من ثمانية قرون.
وتلك هي قصة تمزقنا ومنازعتنا وفشلنا في حفظ حضارتنا - كما يحفظها الرجال - هي قصة اغتيال العقل والحرية في تاريخنا أمة وأفرادا.